لا أستطيع تذكر أول يوم في الحرب، يبدو مشوشًا بالنسبة لي. هو يشبه أيام الموت الحزينة التي تلتهم قلبك وعاطفتك وذاكرتك، وكلما تذكرت الحرب لمعت ليالٍ طويلة ومظلمة بدون كهرباء، وارتفع صوت تحليق الطيران، وعادت إلي نظراتنا الصامتة والمتبادلة ونحن نحاول أن نخمن من سيموت ومن سيبقى حيًا وحيدًا وحزينًا.
في منزل العائلة كنا عشرة أشخاص، أنا وأمي وابني وأشقائي الثلاثة، وزوجة أخي وأربع صبايا صغيرات هن بنات أخي. كنا نبدو كعمال المناجم نضع كشافات للضوء فوق رؤوسنا، نتحرك بحذر عند غروب الشمس، ننتقل إلى سطح المنزل للنوم هناك. يبدو الأمر خطيرًا ومجازفة حمقاء، لكن بعد تفكير عميق بدا لنا أن الموت فوق سطح المنزل أسهل وألطف من الموت تحت أنقاض منزلنا المكون من ثلاثة أدوار.
بدأ وضعنا الاقتصادي بالتدهور وكنت كل ليلة أتذكر وجه أبي وهو يضع لوح الشكولاتة تحت وسادتي برفق كي لا أصحو. أتذكر هذا وأنا أشعر بجوع لم أعتده من قبل. ربما كانت طريقة نومي متكومة بجوار ابني السبب في ذلك. كنا نضع باب السطح مفتوحًا وكلما باغتنا صوت الطيران، انتشلنا الأطفال وقمنا بالركض. كان هذا يحدث تلقائيًا حتى صار الأطفال لا ينتظرون أن نحتضنهم لنهرب، ويقفزون قبلنا ثم تبدأ رحلة الدموع والبكاء خوفًا بعد سماع صوت ارتطام الصاروخ.
في إحدى المرات، نسينا أن نثبت الباب جيدًا وقامت الرياح بإغلاقه وتسبب هذا بصوت ارتطام كبير جدًا. قمنا مفزوعين وكأن الصاروخ قد سقط في أحضاننا وحين ارتطمنا بالباب المغلق واكتشفنا أن الباب هو من فعل ذلك، تحول البكاء والهلع إلى ضحك هستيري. أجزم أن تلك اللحظة صنعت منا جميعًا أشخاصًا آخرين.
استطعت بعدها أن أتخلص من أطنان الخوف والقلق وبت سعيدة بحالات الثبات التي استسلمنا لها، لكن الغريب أن المدينة كلها بدت وكأنها ارتطمت بباب سطحنا المغلق واستسلم الناس للحرب وعادوا إلى إقامة احتفالاتهم في الشوارع وصرنا ننام على صوت فنانات شعبيات ونتبادل وإخوتي ساخرين أسماء أغاني نتمنى سماعها.
انتهت صدمة الحرب فجأة وتحول الأمر إلى واقع مر علينا معايشته. حصلت بعدها على عمل في صلب الحرب ووجدت نفسي أمام الضحايا وجهًا لوجه. كان العمل الحقوقي مؤذيًا جدًا، إذ كان كل ما علي فعله هو جمع الشهادات وكتابة التقارير وإرسالها ثم العودة إلى المنزل بكل تلك القصص الظالمة والنوم معها. لقد كان هذا فظًا ومخيفًا ومجحفًا، أن أستدير وأعود إلى المنزل. ثم اعتدت بعدها أن أبكي على رصيف المستشفى داخل سيارتي، أتقيأ في إحدى الزوايا وأذهب للحمامات وأنتحب. لقد اقتربت شعرة ما في رأسي أن تنقطع، لم أعرف هل سأجن أم سأموت لو حدث وانقطع ذلك الشيء الذي أشعر به مشدودًا في جمجمتي.
حتى جاء ذلك اليوم الذي دخلت فيه إلى مستشفى حكومي متسللة بدون تصريح للقاء ضحايا صيادين قصفهم الطيران. دفعت باب الغرفة الخطأ ودخلت إلى غرفة فيها شاب أسمر لديه نصف جسد ووجه محروق. لقد كانت أول مرة أرى فيها شخصًا محروقًا محتفظًا بوسامته وجلاله. فتحت دفتري وعرفته على نفسي وبدأت أسئلتي، وفي منتصف الحديث اكتشفت أنني في غرفة جندي بائس مات كل رفاقه وتحولوا لأشلاء. مقابلة الجنود لم تكن مجدولة في أعمالنا، كنت أريد الهرب خوفًا من أن يتم اتهامي بجمع معلومات ما وكان هو وحيدًا لدرجة لم تسعفه فيها دموعه وأظن أنه كان بحاجة إلى الحديث والحديث فقط، حتى إلى تمساح أو أي مخلوق فضائي. لا أصدقاء ولا رفاق ولا عائلة تسانده. وددت لو واسيته أو خففت عنه أو حتى ابتسمت، لكن قلبي كان راجفًا وجبانًا. كان مهذبًا جدًا وشكرني على مجيئي وطلب مني بعيون محتقنة بالدموع أن أعود، لكني بالطبع لم أعد (غبية).
من يومها افترسني الندم. وكنت وجبته اللذيذة. تذكرت كل من مررت بهم ولم أبكِ معهم. تغير شيء ما في داخلي وفي مواجهة الأحداث. صارت عاطفتي هي المتحكم الوحيد ومنحت عقلي وإشاراته وتوجساته إجازة مدفوعة. وكان لهذا عواقب عديدة، لكن جميعها أفضل من أن أترك شخصًا وحيدًا خلف ظهري.
ربما هذا التأثير الأصدق والأقوى للحرب. نحن جميعًا في حفرة واحدة ومن الظلم أن نفكر أن ننتقل إلى حفرة أخرى بدون أن نشبك أيدينا سويًا. لماذا لا أفكر بمغادرة هذه الحفرة المظلمة. لنفس الفكرة. نغادر سويًا للأبد أو نبقى جميعًا سويًا وللأبد أيضًا.
غالبًا ما يفشل الأشخاص الذين يخططون للحروب ويموّلونها، ويضعون خطط المساعدات ويحاولون التفاوض من أجل السلام، في التحدث إلى الأشخاص الذين يعيشون في قلب كل تلك الأحداث.
قبل فترة طويلة من سيطرة غزة على عناوين الأخبار، كان مصطلح «أسوأ أزمة إنسانية في العالم» يُشير في كثيرٍ من الأحيان إلى اليمن. وقد خلّفت حرب اليمن المُدمّرة والانهيار الاقتصادي، اللذان بدآ قبل تسع سنوات، مئات الآلاف من القتلى بسبب العنف والمرض والمجاعة ونقص الرعاية الصحية. وتأثر عشرات الملايين غيرهم من الصراع اليمني، لكن قصة ذلك الصراع غالبًا ما رُويت، حتى الآن، على لسان الصحفيين والمنظمات الإغاثية والسياسيين.
كيف اختبر اليمنيّون فعليًا هذه الصعوبات؟ لمعرفة ذلك، طرح مشروع الاستماع إلى اليَمنيّين سؤالاً واحدًا على اليمنيين: «كيف أثّرت الحرب في اليمن على حياتك؟»
وأجاب عليه أكثر من 100 يمني– من داخل البلاد ومن جميع أنحاء العالم – حيث أرسلوا رسائل بريد إلكتروني ورسائل واتساب وملاحظات صوتية ومقاطع فيديو وقصائد وصور.
تتضمن تلك الرسائل شهادات عن خسارة الأحباب والممتلكات والحياة في المنفى، وما يعنيه العيش في ظل القصف والمعارك البرّية، ولكن هناك أيضًا حكايات عن الحب والترابُط العائلي، والصمود الشخصي والمهني في وجه العقبات التي قد تبدو مستحيلة.
عندما تتصدر وقائع اليمن عناوين الأخبار، فإنها، في كثير من الأحيان، تتحوّل إلى روايات مجهولة الهوية. لنبتعد عن ذلك ونلقي نظرة على الحياة خلف عناوين الأخبار، ونستمع إلى اليمنيين وهم يروون قصصهم، بكلماتهم الخاصة، باللغتين العربية والإنجليزية.
* لا تستطيع وكالة «ذا نيو هيومانيترين» التحقق بشكلٍ مستقل من تفاصيل كل قصة على حدة، وقد تم تحرير الأسلوب والطول ومستوى الوضوح في تلك القصص.
كيف جمع مشروع الاستماع إلى اليَمنيّين تلك القصص؟
طلبنا من الناس إرسال قصصهم، باللغة العربية أو الإنجليزية، من خلال نموذج عبر الإنترنت، أو عبر البريد الإلكتروني أو الفيسبوك، أو باستخدام رقم مُخصص للتواصل عبر واتساب. وبمجرّد وصول المُشاركات، طلبنا من الصحفيين المحليين جمع القصص من مختلف أنحاء اليمن التي لم يتم تمثيلها بشكلٍ جيد حتى الآن في المشاركات.
لماذا لم يتم نشر جميع القصص؟
لسوء الحظ، لم تتوفر لدينا المساحة الكافية لنشر جميع القصص، لكننا قرأنا كل قصة وردت إلينا.
هل تم تحرير القصص؟
تم تحرير القصص من حيث الأسلوب والطول والوضوح، كما أضفنا القليل من السياق إلى بعض القصص لمُساعدة القرّاء الذين لا يعرفون الكثير عن حرب اليمن، ولم تكن الترجمات بين اللغات ترجمة حرفية دائمًا.
ما الذي سيقوم به مشروع الاستماع إلى اليَمنيّين في المرحلة القادمة؟
سيستضيف المشروع فعاليات عبر الإنترنت وفعاليات حضورية تتمحور حول المشروع واليمن والصحافة الشاملة. اضغط هنا لتلقي المستجدات.
لدي فكرة لمشروع استماع خاص بي. مع من يجب أن أتواصل؟
يمكنك التواصل مع البريد الإلكتروني yemenlistening@thenewhumanitarian.org واستخدام عنوان الرسالة التالي: «فكرة مشروع استماع». إذا كان لدينا ما يكفي من المتقدّمين، سندعوك لحضور وُرَش عمل مستقبلية حول ما تعلمناه في عملية إنشاء مَشروع الاستماع إلى اليَمنيّين، وسنساعدك على التواصل مع الأشخاص الآخرين المهتمّين بنفس الأفكار.أين يمكنني معرفة المزيد حول اليمن؟
سيطر المتمردون الحوثيون، الذين يُطلق عليهم رسميًا اسم جماعة «أنصار الله»، على العاصمة اليمنية صنعاء في أواخر عام 2014. وفي مارس (آذار) من عام 2015، بدأ تحالف بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في قصف الأجزاء التي يسيطر عليها الحوثيون في البلاد، كجزءٍ من حملة عسكرية لدعم الحكومة اليمنية المُعترف بها دوليًا.
يمكنك العثور على جميع مراحل تغطية وكالة «ذا نيو هيومانيترين» للحرب والأزمة الإنسانية في اليمن هنا.
ما هي وكالة «ذا نيو هيومانيترين»؟
«ذا نيو هيومانيترين» هي وكالة إخبارية غير ربحية تسخّر الصحافة عالية الجودة والمستقلة في خدمة ملايين الأشخاص المتضررين من الأزمات الإنسانية حول العالم. نحن ننقل الأخبار من قلب الأحداث والصراعات والكوارث لنشر الوعي بشأن التدابير الوقائية والاستجابة المناسبة.
الإخراج والمونتاج: | آني سليمرود |
تنسيق المشروع: | نهى الجنيد |
الترجمة: | سهى الجنيد ومؤسسة «نـتكلّم» |
إنشاء الموقع الإلكتروني: | مارك فير |
إنتاج محتوى الجمهور: | ويتني باترسن |
الفعاليات: | مات كروك |